الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
المسألة الثانية:في تفسير قوله: {نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ} قولان الأول: المعنى أنا نزيد في توفيقه وإعانته وتسهيل سبل الخيرات والطاعات عليه، وقال مقاتل {نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ} بتضعيف الثواب، قال تعالى: {لِيُوَفّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُم مّن فَضْلِهِ} [فاطر: 30] وعن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «من أصبح وهمه الدنيا شتت الله تعالى عليه همه وجعل فقره بين عينيه، ولم يأته من الدنيا إلى ما كتب له، ومن أصبح همه الآخرة جمع الله همه وجعل غناه في قلبه وأتته الدنيا وهي راغمة عن أنفها» أو لفظً يقرب من أن يكون هذا معناه.المسألة الثالثة:ظاهر اللفظ يدل على أن من صلّى لأجل طلب الثواب أو لأجل دفع العقاب فإنه تصح صلاته، وأجمعوا على أنها لا تصح والجواب: أنه تعالى قال: {مَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الآخرة} والحرث لا يتأتى إلا بإلقاء البذر الصحيح في الأرض، والبذر الصحيح لجميع الخيرات والسعادات ليس إلا عبودية الله تعالى.المسألة الرابعة:قال أصحابنا إذا توضأ بغير نية لم يصح، قالوا لأن هذا الإنسان ما أراد حرث الآخرة، لأن الكلام فيما إذا كان غافلًا عن ذكر الله وعن الآخرة، فوجب أن لا يحصل له نصيب فيما يتعلق بالآخرة والخروج عن عهدة الصلاة من باب منافع الآخرة، فوجب أن لا يحصل في الوضوء العاري عن النية. اهـ.
قوله تعالى: {يَسْتَعْجِلُ بِهَا الذين لاَ يُؤْمِنُونَ بِهَا} يعني على طريق الاستهزاء، ظنًّا منهم أنها غير آتية، أو إيهامًا للضَّعَفة أنها لا تكون.{والذين آمَنُواْ مُشْفِقُونَ مِنْهَا} أي خائفون وَجِلون لاستقصارهم أنفسهم مع الجهد في الطاعة؛ كما قال: {والذين يُؤْتُونَ مَا آتَواْ وَّقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إلى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ} [المؤمنون: 60].{وَيَعْلَمُونَ أَنَّهَا الحق} أي التي لا شك فيها.{أَلاَ إِنَّ الذين يُمَارُونَ فَي الساعة} أي يشكّون ويخاصمون في قيام الساعة.{لَفِي ضَلاَلَ بَعِيدٍ} أي عن الحق وطريق الاعتبار؛ إذ لو تذكّروا لعلموا أن الذي أنشأهم من تراب ثم من نطفة إلى أن بلغوا ما بلغوا، قادر على أن يبعثهم.قوله تعالى: {الله لَطِيفٌ بِعِبَادِهِ} قال ابن عباس: حَفِيّ بهم.وقال عكرمة: بارٌّ بهم.وقال السدّيّ: رفيق بهم.وقال مقاتل: لطيف بالبَرّ والفاجر؛ حيث لم يقتلهم جوعًا بمعاصيهم.وقال القرظيّ: لطيف بهم في العرض والمحاسبة.قال: وقال جعفر بن محمد بن عليّ بن الحسين: يلطف بهم في الرزق من وجهين: أحدهما أنه جعل رزقك من الطيبات.والثاني أنه لم يدفعه إليك مرة واحدة فتبذره.وقال الحسين بن الفضل: لطيف بهم في القرآن وتفصيله وتفسيره.وقال الجُنيد: لطيف بأوليائه حتى عرفوه، ولو لطف بأعدائه لما جحدوه.وقال محمد بن عليّ الكتّانيّ: اللطيف بمن لجأ إليه من عباده إذا يئس من الخلق توكّل عليه ورجع إليه، فحينئذ يقبله ويقبل عليه.وجاء في حديث النبيّ صلى الله عليه وسلم: «إن الله تعالى يطلع على القبور الدوارس فيقول جلّ وعز اِمّحت آثارهم واضمحلت صُوَرهم وبقي عليهم العذاب وأنا اللطيف وأنا أرحم الراحمين خففوا عنهم العذاب فيخفف عنهم العذاب» قال أبو عليّ الثقفِيّ رضي الله عنه: وقيل: اللطيف الذي ينشر من عباده المناقب ويستر عليهم المثالب؛ وعلى هذا قال النبيّ صلى الله عليه وسلم: «يا من أظهر الجميل وستر القبيح» وقيل: هو الذي يقبل القليل ويبذل الجزيل.وقيل: هو الذي يجبر الكسير وييسّر العسير.وقيل: هو الذي لا يخاف إلا عدله ولا يرجى إلا فضله.وقيل: هو الذي يبذُل لعبده النعمة فوق الهمة ويكلفه الطاعة فوق الطاقة؛ قال تعالى: {وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ الله لاَ تُحْصُوهَا} [النحل: 18]، {وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً} [لقمان: 20]، وقال: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكمْ فِي الدين مِنْ حَرَجٍ} [الحج: 78]، {يُرِيدُ الله أَن يُخَفِّفَ عَنْكُمْ} [النساء: 28].وقيل: هو الذي يعين على الخدمة ويكثر المِدْحة.وقيل: هو الذي لا يعاجل من عصاه ولا يخَيّب من رجاه.وقيل: هو الذي لا يرد سائله ولا يوئِس آمله.وقيل: هو الذي يعفو عمن يهفو.وقيل: هو الذي يرحم من لا يرحم نفسه.وقيل: هو الذي أوقد في أسرار العارفين من المشاهدة سراجًا، وجعل الصراط المستقيم لهم منهاجًا، وأجزل لهم من سحائب برّه ماء ثَجَّاجًا.وقد مضى في (الأنعام) قول أبي العالية والجُنَيد أيضًا.وقد ذكرنا جميع هذا في (الكتاب الأسنى في شرح أسماء الله الحسنى) عند اسمه اللطيف، والحمد لله.{يَرْزُقُ مَن يَشَاء} ويَحْرِم من يشاء.وفي تفضيل قوم بالمال حكمةٌ؛ ليحتاج البعض إلى البعض؛ كما قال: {لِّيَتَّخِذَ بَعْضُهُم بَعْضًا سُخْرِيًّا} [الزخرف: 32]، فكان هذا لطفًا بالعباد.وأيضًا ليمتحن الغنيّ بالفقير والفقير بالغني؛ كما قال: {وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ} [الفرقان: 20] على ما تقدّم بيانه.{وَهُوَ القوي العزيز}.قوله تعالى: {مَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الآخرة نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ} الحرث العمل والكسب.ومنه قول عبد الله بن عمر: واحرث لدنياك كأنك تعيش أبدًا واعمل لآخرتك كأنك تموت غدًا. ومنه سمي الرجل حارثًا.والمعنى: أي من طلب بما رزقناه حرثًا لآخرته، فأَدّى حقوق الله وأنفق في إعزاز الدِّين؛ فإنما نعطيه ثواب ذلك للواحد عشرًا إلى سبعمائة فأكثر.{وَمَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدنيا} أي طلب بالمال الذي آتاه الله رياسة الدنيا والتوصل إلى المحظورات، فإنا لا نحرِمه الرزق أصلًا، ولكن لا حظّ له في الآخرة من ماله؛ قال الله تعالى: {مَّن كَانَ يُرِيدُ العاجلة عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاء لِمَن نُّرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاهَا مَذْمُومًا مَّدْحُورًا وَمَنْ أَرَادَ الآخرة وسعى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُم مَّشْكُورًا} [الإسراء: 18 19].وقيل: {نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ} نوفقه للعبادة ونسهلها عليه.وقيل: حرث الآخرة الطاعة؛ أي من أطاع فله الثواب.قيل: {نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ} أي نعطه الدنيا مع الآخرة.وقيل: الآية في الغَزْو؛ أي من أراد بِغَزْوِه الآخرةَ أوتي الثواب، ومن أراد بغزوه الغنيمة أوتي منها.قال القُشيريّ: والظاهر أن الآية في الكافر؛ يوسع له في الدنيا؛ أي لا ينبغي له أن يَغْتَرَّ بذلك لأن الدنيا لا تبقى.وقال قتادة: إن الله يعطي على نية الآخرة ما شاء من أمر الدنيا، ولا يعطي على نية الدنيا إلا الدنيا.وقال أيضًا: يقول الله تعالى: من عمل لآخرته زدناه في عمله وأعطيناه من الدنيا ما كتبنا له ومن آثر دنياه على آخرته لم نجعل له نصيبًا في الآخرة إلا النار ولم يصب من الدنيا إلا رزقًا قد قسمناه له لا بُدّ أن كان يؤتاه مع إيثار أو غير إيثار.وروى جُوَيْبِرْ عن الضحاك عن ابن عباس قال: وقوله عز وجل: {مَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الآخرة} من كان من الأبرار يريد بعمله الصالح ثواب الآخرة {نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثهِ} أي في حسناته.{وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا} أي من كان من الفُجّار يريد بعمله الحَسَن الدنيا {نُوْتِهِ مِنْهَا} ثم نسخ ذلك في سبحان: {مَّن كَانَ يُرِيدُ العاجلة عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاء لِمَن نُّرِيدُ}.والصواب أن هذا ليس بنسخ؛ لأن هذا خبر والأشياء كلها بإرادة الله عز وجل.ألا ترى أنه قد صحّ عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه قال: «لا يقل أحدكم اللهم اغفر لي إن شئت اللهم ارحمني إن شئت» وقد قال قتادة ما تقدم ذكره، وهو يبيّن لك أن لا نسخ.وقد ذكرنا في (هود) أن هذا من باب المطلق والمقيّد، وأن النسخ لا يدخل في الأخبار.والله المستعان.مسألة: هذه الآية تبطل مذهب أبي حنيفة في قوله: إنه من توضأ تَبَرُّدًا أنه يجزيه عن فريضة الوضوء الموظّف عليه؛ فإن فريضة الوضوء من حرث الآخرة والتبرُّد من حرث الدنيا، فلا يدخل أحدهما على الآخر، ولا تجزي نيته عنه بظاهر هذه الآية؛ قاله ابن العربي. اهـ.
|